الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: إنّ المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيش رحالهم وهم الذين استخرجوا الصاع من رحله فأخذوه برقبته وردّوه إلى يوسف عليه السلام. تنبيه: هاهنا همزتان مختلفتان من كلمتين قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء، والباقون بالتحقيق. {كذلك}، أي: مثل ذلك الكيد: {كدنا ليوسف} خاصة بأنّ علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه السلام في الابتداء، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {فيكيدوا لك كيدًا} [يوسف] والكيد من الخلق الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق، فالمراد من هذا الكيد هو أنّ الله تعالى ألقى في قلب إخوته بأن حكموا أنّ جزاء السارق هو أن يسترق لا جرم لما ظهر الصاع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، وصار ذلك سببًا لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه. ولما كان الكيد يشعر بالحيلة والخديعة، وهو في حق الله تعالى محال حمل على الغاية، ونهايته هنا إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محال على هذا المعنى، وقيل: المراد بالكيد هاهنا إنّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله تعالى نصره وقوّاه وأعلى أمره وقوله تعالى: {ما كان}، أي: يوسف: {ليأخذ أخاه في دين الملك}، أي: حكمه بيان للكيد؛ لأنّ جزاءه كان عنده الضرب وتغريم مثلي ما أخذ لا أنه يستبعد، وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} فيه وجهان:أحدهما: أنه استثناء منقطع تقديره: ولكن بمشيئة الله أخذه في دين الملك، وهو دين آل يعقوب عليه السلام إنّ الاسترقاق جزاء السارق.والثاني: أنه مفرغ من الأحوال العامّة والتقدير ما كان ليأخذه في كل حال إلا في حال التباسه بمشيئة الله، أي إذنه في ذلك. ولما كان يوسف عليه السلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته بعدما كان فيه عندهم من الصغار كان ذلك محل عجب فقال تعالى التفاتًا إلى مقام التكلم: {نرفع درجات من نشاء}، أي: بالعلم كما رفعنا درجته، وكان الأصل درجاته ولكنه عمم؛ لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، وفي هذه الآية دليل على أنّ العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات؛ لأنّ الله تعالى لما هدى يوسف عليه السلام إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك ورفع درجته على إخوته، ووصف إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء} عندما حكى عنه دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب.وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين: {وفوق كل ذي علم عليم} قال ابن عباس: فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم؛ لأنه هو الغني بعلمه عن التعلم، وفي الآية دليل على أنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء، وكان يوسف أعلم منهم. قال ابن الأنباري: يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لربه تعالى، ولا يطمع نفسه في العلية في العلوم؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه. اهـ.
{وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي قالوا: ولمن جاء بالصواع من جهة نفسه حمل بعير.والبعير: الجمل، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار، والمراد بالحمل ها هنا: ما يحمله البعير من الطعام، ثم قال المنادي: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي: بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية، والزعيم هو الكفيل، ولعل القائل: {نفقد صواع الملك} هو المنادي، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه واحدًا منهم، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادي وحده، لأنه القائل بالحقيقة.{قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ في الأرض} التاء بدل من واو القسم عند الجمهور.وقيل: من الباء، وقيل: أصل بنفسها، ولا تدخل إلاّ على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه، وقد دخلت نادرًا على الرب، وعلى الرحمن، والكلام على هذا مستوفي في علم الإعراب، وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم، وطهارة ذيلهم، عن التلوّث بقذر الفساد في الأرض، الذي من أعظم أنواعه السرقة.لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرّة الأولى، وهذه المرّة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة، بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد، ولو لم يكن من ذلك إلاّ ردّهم لبضاعتهم التي وجدوها في رحالهم، والمراد بالأرض هنا: أرض مصر.ثم أكدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقولهم: {وَمَا كُنَّا سارقين} لزيادة التبرّي مما قذفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء.{قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين} هذه الجملة مستأنفة كما تقدّم غير مرّة في نظائرها.والقائلون: هم أصحاب يوسف، أو المنادي منهم وحده كما مرّ، والضمير في: {جزاؤه} للصواع على حذف مضاف أي: فما جزاء سرقة الصواع عندكم، أو الضمير للسارق، أي: فما جزاء سارق الصواع عندكم: {إِن كُنتُمْ كاذبين} فيما تدّعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة، وذلك بأن يوجد الصواع معكم، فأجاب أخوة يوسف وقالوا: {جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي: جزاء سرقة الصواع، أو جزاء سارق الصواع.وجزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية: وهي: {من وجد في رحله فهو جزاؤه} خبر المبتدأ، على إقامة الظاهر مقام المضمر فيها، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو، فيكون الضمير الثاني عائدًا إلى المبتدأ، والأوّل إلى من، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ: و: {من وجد في رحله} والتقدير: جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله، وتكون جملة: {فهو جزاؤه} لتأكيد الجملة الأولى، وتقريرها.قال الزجاج: وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} زيادة في البيان أي: جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير.قال المفسرون: وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوهم في جزائه: {كذلك نَجْزِى الظالمين} أي: مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف، أي: كذلك نحن نجزي الظالمين بالرق.ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر، فأقبل يوسف على ذلك، فبدأ بتفتيش: {أوعيتهم} أي: أوعية الإخوة العشرة: {قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} أي: قبل تفتيشه لوعاء أخيه بنيامين دفعًا للتهمة ورفعًا لما دبره من الحيلة: {ثُمَّ استخرجها} أي: السقاية أو الصواع؛ لأنه يذكر ويؤنث: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي: مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف يعني: علمناه إياه أوحيناه إليه، والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية، قال القتيبي: معنى: {كدنا} دبرنا، وقال ابن الأنباري: أردنا.وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعًا ثابتًا.{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الملك} أي: ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك، أي: ملك مصر، وفي شريعته التي كان عليها، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة، كما هو دين يعقوب وشريعته، وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفًا لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه، وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم: إن جزاء السارق الاسترقاق، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره، وهو معنى قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي: إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له، وهذه الجملة: أعني: {ما كان ليأخذ أخاه} إلخ، تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف، أو تفسير له: {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء} بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك: {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ} ممن رفعه الله بالعلم: {عَلِيمٌ} أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه، ولا يرتقون شأوه.
|